فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا وخرّ موسى صعقًا} ترتب على التجلي أمران أحدهما تفتت الجبل وتفرّق أجزائه، والثاني خرور موسى مغشيًا عليه.
قاله ابن زيد وجماعة المفسرين، وقال السدّي ميتًا ويبعده لفظه أفاق والتجلّي بمعنى الظّهور الجسماني مستحيل على الله تعالى، قال ابن عباس وقوم لما وقع نوره عليه تدكدك، وقال المبرد: المعنى ظهر للجبل من ملكوت الله ما يدكدك به، وقيل ظهر جزء من العرش للجبل فتصرّع من هيبته، وقيل: ظهر أمره تعالى، وقيل: {تجلّى} لأهل الجبل يريد موسى والسبعين الذين معه، وقال الضحاك: أظهر الله من نور الحجب مثل منخر الثور، وقال عبد الله بن سلام: وكعب الأحبار ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط، وقال الزمخشري: فلما ظهر له اقتداره وتصدّى له أمره وإرادته انتهى، وقال المتأولون المتكلمون كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره: إن الله خلق للجبل حياة وحسًّا وإدراكًا يرى به ثم تجلى له أي ظهر وبدا فاندك الجبل لشدة المطلع فلما رأى موسى ما بالجبل صعق وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، والظاهر نسبة التجلي إليه تعالى على ما يليق به من غير انتقال ولا وصف يدلّ على الجسمية، قال ابن عباس صار ترابًا.
وقال مقاتل قطعًا متفرقة، وقيل صار ستة أجبل ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى، وثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء، رواه أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل ذهب أعلاه وبقي أسفله، وقيل صار غبارًا تذروه الرياح، وقال سفيان: روى أنه انساح في الأرض وأفضى إلى البحر الذي تحت الأرضين، قال ابن الكلبي: فهو يهوي فيه إلى يوم القيامة، وقال الجمهور {دكًّا} أي مدكوكًا أو ذا دك وقرأ حمزة والكسائي دكاء على وزن حمراء والدكاء الناقة التي لا سنام لها والمعنى جعله أرضًا دكاء تشبيهًا بالناقة الدكاء، وقال الربيع بن خيثم: ابسط يدك دكاء أي مدّها مستوية، وقال الزمخشري والدكاء اسم للرابية الناشرة من الأرض كالدكة انتهى، وهذا يناسب قول من قال إنه لم يذهب بجملته وإنما ذهب أعلاه وبقي أكثر، وقرأ يحيى بن وثاب {دكًّا} أي قطعًا جمع دكاء نحو غز جمع غزاء، وانتصب على أنه مفعول ثان لجعله ويضعف قول الأخفش إن نصبه من باب قعدت جلوسًا {وصعقًا} حال مقارنة، ويقال صعقة فصعق وهو من الأفعال التي تعذّب بالحركة نحو شتر الله عينه فشترت، والظاهر أن موسى والجبل لم يطيقا رؤية الله تعالى حين تجلى فلذلك اندكّ الجبل وصعق موسى عليه السلام، وحكى عياض بن موسى عن القاضي أبي بكر بن الطيّب: أن موسى عليه السلام رأى الله فلذلك خرّ صعقًا وأن الجبل رأى ربه فلذلك صار دكًّا بإدراك كلفة الله له وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله عليه وسلم فكلم موسى مرتين ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين وذكر المفسرون من رؤيته ملائكة السموات السبع وحملة العرش وهيئاتهم وإعدادهم ما الله أعلم بصحته.
{فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك} أي من مسألة الرؤية في الدنيا قاله مجاهد أو من سؤالها قبل الاستئدان أو عن صغائري حكاه الكرماني، أو قال ذاك على سبيل الإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه عند ظهور الآيات على ما جرت به عادة المؤمن عند رؤية العظائم وليست توبة عن شيء معين أشار إليه ابن عطية، وقال الزمخشري {قال سبحانك} أنزّهك عن ما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها {تبت إليك} من طلب الرؤية، فإن قلت: فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته فمم تاب، قلت: عن إجرائه تلك المقالة العظيمة وإن كان لغرض صحيح على لسانه من غير إذن فيه من الله تعالى فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكًّا وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر وكيف سبّح ربه ملتجئًا إليه وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه وقال: {أنا أوّل المؤمنين}، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام بالمتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبًا ولا يغرّنك تستّرهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم والقول ما قاله بعض العدلية فيهم:
لجماعة سموا هواهم سنة ** وجماعة حمر لعمري مؤكفه

قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا ** شنع الورى فتستّروا بالبلكفه

وهو تفسير على طريقة المعتزلة وسبّ لأهل السنة والجماعة على عادته وقد نظم بعض علماء السنة على وزن هذين البيتين وبحرهما أنشدنا الأستاذ العلامة أبو جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير بغرناطة إجازة إن لم يكن سماعًا ونقلته من خطّه، قال أنشدنا القاضي الأديب العالم أبو الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني بقراءتي عليه عن أخيه القاضي أبي بكر من نظمه:
شبهت جهلًا صدر أمة أحمد ** وذوي البصائر بالحمير المؤكفه

وزعمت أن قد شبّهوا معبودهم ** وتخوّفوا فتستروا بالبلكفه

ورميتهم عن نبعة سويتها ** رمْي الوليد غدا يمزق مصحفه

وجب الخسار عليك فانظر منصفا ** في آية الأعراف فهي المنصفه

أترى الكليم أتى بجهل ما أتى ** وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه

وبآية الأعراف ويك خذلتم ** فوقفتم دون المراقي المزلفه

لو صحّ في الإسلام عقدك لم تقل ** بالمذهب المهجور من نفي الصفه

إن الوجوه إليه ناظرة بذا ** جاء الكتاب فقلتم هذا السّفه

فالنقي مختص بدار بعدها ** لك لا أبا لك موعدًا لن تخلفه

وأنشدنا قاضي القضاة أبو القاسم عبد الرحمن بن قاضي القضاة أبي محمد بن عبد الوهاب بن خلف العلامي بالقاهرة لنفسه:
قالوا يريد ولا يكون مراده ** عدلوا ولكن عن طريق المعرفه

{وأنا أول المؤمنين} قال ابن عباس ومجاهد: من مؤمني بني إسرائيل، وقيل: من أهل زمانه إن كان الكفر قد طبق الآفاق، وقال أبو العالية بأنك لا ترى في الدنيا، وقال الزمخشري: بأنك لست بمرئيّ ولا مدرك بشيء من الحواس، وقال أيضًا بعظمتك وجلالك وأن شيئًا لا يقوم لبطشك وبأسك انتهى، وتفسيره الأول على طريقة المعتزلة وقد ذكر متكلمو أهل السنة دلائل على رؤية الله تعالى سمعية وعقلية يوقف عليها وعلى حجج الخصوم في كتب أصول الدين. اهـ.

.قال ابن كثير:

{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)}.
يخبر تعالى عن موسى، عليه السلام، أنه لما جاء لميقات الله تعالى، وحصل له التكليم من الله تعالى سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي}.
وقد أشكل حرف {لن} هاهنا على كثير من العلماء؛ لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة. وهذا أضعف الأقوال؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، كما سنوردها عند قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 22، 23].
وقوله تعالى إخبارًا عن الكفار: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
وقيل: إنها لنفي التأبيد في الدنيا، جمعا بين هذه الآية، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة.
وقيل: إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وقد تقدم ذلك في الأنعام [الآية: 103].
وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى، عليه السلام: «يا موسى، إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده»؛ ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}.
قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية: حدثنا أحمد بن سُهَيْل الواسطي، حدثنا قُرَّة بن عيسى، حدثنا الأعمش، عن رجل، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما تجلى ربه للجبل، أشار بإصبعه فجعله دكًا» وأرانا أبو إسماعيل بإصبعه السبابة.
هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم، ثم قال حدثني المثنى، حدثنا حجَّاج بن مِنْهال، حدثنا حَمَّاد، عن لَيْث، عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} قال: «هكذا بإصبعه- ووضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر- فساخ الجبل».
هكذا وقع في هذه الرواية حماد بن سلمة، عن ليث، عن أنس. والمشهور: حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، كما قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا هُدْبَة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} قال: وضع الإبهام قريبًا من طرف خنصره، قال: فساخ الجبل- قال حميد لثابت: تقول هذا؟ فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد، وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوله أنس وأنا أكتمه؟
وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو المثنى، معاذ بن معاذ العنبري، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} قال: قال هكذا- يعني أنه خرج طرف الخنصر- قال أحمد: أرانا معاذ، فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد؟ قال: فضرب صدره ضربة شديدة وقال: من أنت يا حميد؟! وما أنت يا حميد؟! يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول أنت: ما تريد إليه؟!
وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق، عن معاذ بن معاذ به. وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن سلمة به ثم قال: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث حماد.
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق، عن حماد بن سلمة، به. وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
ورواه أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، عن محمد بن علي بن سُوَيْد، عن أبي القاسم البغوي، عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، فذكره وقال: هذا إسناد صحيح لا علة فيه.
وقد رواه داود بن المحبر، عن شعبة، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا وهذا ليس بشيء، لأن داود ابن المحبر كذاب ورواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بنحوه.
وأسنده ابن مردويه من طريقين، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن أنس مرفوعا بنحوه، وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيْلِمِاني، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعا، ولا يصح أيضًا.
وقال السُّدِّي، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر {جَعَلَهُ دَكًّا} قال: ترابا {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} قال: مغشيًا عليه. رواه ابن جرير.
وقال قتادة: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} قال: ميتًا.
وقال سفيان الثوري: ساخ الجبل في الأرض، حتى وقع في البحر فهو يذهب معه.
وقال سُنَيْد، عن حجاج بن محمد الأعور، عن أبي بكر الهذلي: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} انقعر فدخل تحت الأرض، فلا يظهر إلى يوم القيامة.
وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض، فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة، رواه ابن مردويه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شَبَّة، حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن معاوية بن عبد الله، عن الجلد بن أيوب، عن معاوية بن قُرَّة، عن أنس بن مالك؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما تجلى الله للجبال طارت لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، بالمدينة: أحد، وورقان، ورضوى. ووقع بمكة: حراء، وثَبِير، وثور». وهذا حديث غريب، بل منكر.